الإقساط والاعتدال .. السبب التاسع لتحصيل محبة اللهِ عبدَه
الإقساط والاعتدال
معنى القسط والإقساط:
القِسْطُ من الأضداد، بمعنى العدل والجور؛ غير أن فعلَه: قَسَط؛ يعني: جار، فحسب، وأما عدل فيقال لَه: أقسط؛ لكن كلَّ ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: «القسط» أو «بالقسط» فمعناه العدل، ولم يأْتِ أبدًا بمعنى الجور، وجاء اسم الفاعل منه في مرَّتين كلتيهما بمعنى الجائرين. فقال تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾ [الجن: ١٤]. وقال تعالى: ﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [الجن: ١٥]. وهي في الآيتين بمعنى «الكافرين».
ثم جاء «أقسَط» أي عدل، «وأقسِطوا» أي اعدلوا، وتقسطوا: تعدلوا، والمقسطين: العادلين، وإذا أخذنا في الاعتبار أن القاسطين بمعنى الكافرين حسب آيتي سورة الجن السابقتين؛ يكون من معاني المقسطين المؤمنين، ومما يؤيِّدُ ذلك أن الله سبحانَه أخبر أنه يحبُّ المقسطين، ومعلومٌ أن العادلين لو لم يكونوا مسلمين مؤمنين لم يحبَّهم اللهُ تعالى، والله أعلى وأعلم.
وقال المفسِّرون -في تفسير آيتي سورة الجِنِّ السابقتين-: القاسط: الجائر، والمقسط: العادل؛ لأن الأول عادِلٌ عن الحق، والثاني عادل إلى الحق، وقَسَط يعني جار، وأقسط يعني عدَل؛ قال الشاعر:
روى النسائي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وكان النضيرُ أشرَفَ من قريظة، وكان إذا قَتل رجلٌ من قريظة رجلًا من النضير قُتِل بِه، وإذا قَتل رجلٌ من النضير رجلًا من قريظة وَدَى مائةَ وسْقٍ من تَمْر؛ فلما بُعِث رسولُ الله ﷺ قتل رجلٌ من النضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتُلَه؛ فقالوا: بيننا وبينكم النبيُّ ﷺ؛ فنـزلت: ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ النفس بالنفس، ونزلت: ﴿ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [المائدة: ٥٠]([2]).
وقال الشوكاني: ﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ فيه تخييرٌ لرسول الله ﷺ بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، وقد استُدِلَّ به على أن حكَّام المسلمين مخيَّرون بين الأمرين، وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكَّام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمِّي إذا ترافعا إليهم، واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم؛ فذهب قومٌ إلى التخيير وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [المائدة: ٤٩]، وبه قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزُّهْرِي وعُمر بن عبد العزيز والسدي، وهو الصحيح من قول الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء.
قوله: ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ أي: إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلا سبيلَ لهم عليك؛ لأنَّ الله حافِظُك وناصرُك عليهم، وإن اخترت الحكم بينهم ﴿ﭧ ﭨ ﭩ﴾؛ أي: بالعَدْل الذي أمرك الله به وأنزله عليك.
وقوله تعالى -في الآية بعدها-: ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [المائدة: ٤٣] فيه تعجيبٌ لَه ﷺ من تحكيمهم إيَّاه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به؛ مع أنَّ ما يُحَكِّمونه فيه هو موجودٌ عندهم في التوراة؛ كالرجْم ونحوه، وإنما يأتون إليه ﷺ ويحكمونه طمَعًا منهم في أن يوافِقَ تحريفَهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير.
قوله: ﴿ﭷ ﭸ﴾ [المائدة: ٤٣] عطفٌ على «يحكمونك» ﴿ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [المائدة: ٤٣]؛ أي: من بعد تحكيمهم لك، وجملةُ قوله: ﴿ﭽ ﭾ ﭿ﴾ [المائدة: ٤٣] لتقرير مضمون ما قبلها([3]).
وفيما قبل هاتين الآيتين ذكر الله تعالى صفاتِ اليهود؛ من أنهم سمَّاعون للكذب وأكالون للسحت ويحرِّفون كُتُبَ الله، وذكر أنه سبحانه بعث إليهم النبيِّين ومنهم موسى وعيسى -عليهما السلام- وأنزل عليهم الكتب ومنها التوراةُ والإنجيل؛ فلم ينفَعْهم من ذلك شيءٌ، وهم قطعًا لن ينفعهم ما جاء به النبيُّ الخاتم ﷺ؛ لأنهم لن يؤمنوا به ولن يُقِرُّوا حُكْمَه؛ لكنْ كلُّ هذا في جانبٍ والعدلُ في جانب آخر، إذ لابد من العدل بينهم؛ لأنه سبيلٌ للدعوة من جهة، وهو من جهة أخرى قضيَّةٌ قائمةٌ بذاتها ومبدأ مستقل.
وهذا أمرٌ بالعدل، وندبٌ إليه، وتحفيزٌ عليه، مع أنَّه عدل فيما بين العدو الكافر؛ فما بالُ العدل بين المؤمنين الأولياء! وإذا كان من التقوى التي يحبُّها الله تعالى ويحب فاعليها والمتصفين بها ألا يُغْدَرَ بالمشركين؛ فإن من العدل الذي يحبُّهُ الله ويحب فاعليه والمتصفين به أن يُقْسَطَ بين الكافرين، وكلاهما يتضمنان الوفاء للمسلمين والعدل بينهم بطبيعة الحال، وهو ما يلي في آية سورة الحجرات.
ثانيًا- الإقساط بين الطائفتين المسلمتين المقتتلتين:
وأصحُّ ما رُوِي في أسباب نزول هذه الآية.. عن أنس بن مالكٍ I قال: قلتُ: يا نبي الله! لو أتيْتَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ؟ فانطلق إليه النبيُّ ﷺ، فركِب حمارًا وانطلق المسلمون يمشُون، وهي أرضٌ سَبِخةٌ، فلما أتاه النبيُّ ﷺ قال: إليك عنِّي، فواللهِ لقد أذاني نَتِنُ حمارك؛ فقال رجل من الأنصار: والله لحمارُ رسولِ اللهِ ﷺ أطيَب ريحًا منْكَ. فغضِب لعبدِ الله رجُلٌ من قومه، وغضب لكل واحدٍ منهما أصحابُه؛ فكان بينهم حربٌ بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أُنزل فيهم هذه الآية([4]).
قالوا: والطائفةُ من الشيء القطعةُ منه، والطائفة الواحِدُ فما فوق، والبغْيُ: التطاول والفساد، وتفيء: أي ترجع إلى أمر الله وكتابِه، وأصلِحوا بينهما: أي احملُوهما على العدْلِ والإنصاف.
[قلت]: يعني ذلك ألا يكونَ الحكمُ وَسَطِيًّا بحيث يقطع من حقِّ إحداهما للأخرى حتى ترضى الباغِية؛ لكنِ الحكمُ بالعدل؛ فإن لم تذعن الباغية قاتَلَها إمامُ المسلمين بعامَّتِهم أو بمن فيهم كِفاية، وقد طبقت هذه الآية بحذافيرها في خلافَةِ عليٍّ I، وخاصَّةً في موقعتي الجمل وصفّين؛ فأهل الجمل وأهل صفّين كانوا بغاةً على الإمام وهو عليٌّ I، وكان هو صاحبَ الحقِّ وقد قاتلهم بمن توافَرَ له من المسلمين.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآيةُ أصلٌ في قتال المسلمين، والعمدَة في حرب المتأوِّلين([1])، وعليها عوَّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيانُ من أهل الملَّة، وإيَّاها عَنَى النبي ﷺ بقوله: «تقتُل عمارًا الفئةُ الباغية»([2])، وقوله ﷺ -في شأن الخوارج-: «يخرجون على خيرِ فِرْقةٍ من الناس -أو: على حين فُرْقة-»([3]). والرواية الأولى أصحُّ؛ لقوله ﷺ: «تقتلهم أَوْلَى الطائفتين إلى الحق»([4])، وكان الذي قتَلَهم عليُّ بنُ أبي طالب ومن كان معه، فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليًّا I كان إمامًا، وأنَّ كل من خرج عليه باغٍ، وأن قِتاله واجِبٌ حتى يفيء إلى الحق ويَنْقادَ إلى الصلح.. إلى آخر كلام القاضي ابن العربي T.