الإقساط إلى غير المقاتلين من المشركين
الإقساط إلى غير المقاتلين من المشركين
والفرْق بين الإقساط في هذه الآية والإقساط في آية المائدة السابقة؛ هو الفرق بين فقه قتال أهل الذمَّة وفقه قتال المسلمين البُغاة، وذلك أنه لا يُقْتَل أسير البغاة ولا يُتبع مدبرهم، ولا يذفَّف على جريحهم، ولا تُسبى ذراريهم ولا أموالُهم، وإذا قَتَل العادلُ الباغي أو الباغي العادل وهو وليُّه؛ لم يتوارَثا، ولا يرِث قاتل عملًا على حال.
وقيل: إن العادل يرثُ الباغي قياسًا على القصاص، وأراه أصحُّ؛ لأنه قتل من حَكَم اللهُ بقتاله؛ فهو أقرب للقصاص منه إلى القتل العمد. وما استهلكه البغاة الخوارج من دمٍ أو مال ثم تابوا؛ لم يُؤخَذوا به، وهو فعل الصحابة M، وهم القدوة كما قال القرطبي؛ لكنْ للأئمة خلافٌ في ذلك، وما نقلناه أصحه. وهذا ليس مخالفًا للعدل كما فَهِمَ الصحابةُ.. كل هذا بخلاف المقاتلين من المشركين والكفار وأهل الكتاب فيُسبون ويُؤسَرُون ويُلزَمون بما أتلفوا إن حصل صلحٌ، وتُفرض على الكتابيِّين الجزيةُ عن يدهم صاغرون.. إلخ.
ثالثًا- الإقساط إلى غير المقاتلين من المشركين وبِرُّهم:
قال تعالى: ﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [الممتحنة: ٨].
قيل: إن هذه الآية منسوخةٌ بآيةِ براءة ﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [التوبة: ٥]، وقيل: هي محكَمَة، ولكلٍّ حُجَّة؛ فالذين قالوا بنسخها قالوا: كان هذا في أوَّل الإسلام عند الموادَعَة وترك الأمر بالقتال، وقالوا: كان هذا الحكم لعلَّةٍ وهي الصلح، وقيل: هي مخصوصةٌ في حلفاء النبي ﷺ ومن بينه وبينهم عهْدٌ، وهم خُزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف، وقيل: هي مخصوصةٌ في الذين آمنوا ولم يُهاجروا، وقيل: نزلت في النساء والصبيان؛ لأنهم ممن لا يقاتل.
وقال أكثر أهل التأويل: هي محكَمَةٌ، واحتجُّوا بحديث أسماء بنت أبي بكر في «الصحيحين» لمَّا قدِمَتْ عليها أمُّها قتيلةُ زوجُ أبي بكر، وكان قد طلَّقها، فقدِمت على أسماء في المدينة وأهدت إليها أشياء، فاستأذنت أسماءُ النبيَّ في قَبُولها؛ لأن أمَّها كانت على الشِّرْك، فقالت: هل تصِلُ أمَّها وهي مشركة؟ قال: «نعم»([1]). وقد عمِل بها بعضُ أهل العلم فيما بعد.
والحقُّ أن هذه الآيات الثلاث (المائدة: 42، والحجرات: 9، والممتحنة: 8) تُفَصِّلُ أحكامَ القسط والعدل، وتتكامل فيما بينها، وتدُلُّ على تفصيل القرآن الكريم كلَّ شيءٍ كأحسن ما يكونُ التفصيل، وحكُمُه في كل شيءٍ بأحكم وأحسن وأصح ما يكون الحكم؛ فتُبيِّن الأولى الحكمَ على الكفار والحكم بينهم، وتبيِّن الثانيَةُ الحكم على بغاة المسلمين والحكمَ بينهم، وتبيِّن الثالثة الحكم على غير المقاتلين أيًّا كان نوعُهُم والحكمَ بينهم، شريطةَ أن يكون كلُّ ذلك الحكم بالعدل والقسط. على أن العدل والقسط في كل ذلك هو ما وَرَد في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والقياسَ عليه قياسًا صحيحًا وليس بما يحلو للحاكم، وقد شرحنا كلًّا في موضعِه فلا حاجة لإعادته.
رابعًا: الاعتدالُ في الدين والدنيا جميعًا:
يقول النبي ﷺ: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن D وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا»([2]).
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: أما قوله «وَلُوا» فبفتح الواو وضم اللام المخففة؛ أي: كانت لهم عليه وِلاية، والمقسطون هم العادلون، وقد فسَّره في آخر الحديث.. وأما المنابر فجمع مِنبر، سُمِّي به لارتفاعه، قال القاضي: يحتمل أن يكونوا على منابرَ حقيقةً على ظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون كنايةً عن المنازل الرفيعة. قلت: الظاهر الأوَّل.
ويكون متضمنًا للمنازل الرفيعة؛ فهم على منابر حقيقة ومنازلهم رفيعة. أما قوله ﷺ: «عن يمين الرحمن» فهو من أحاديث الصفات([3]).. قال القاضي عياض: المراد بكونهم عن اليمين الحالة الحسنة والمنـزلة الرفيعة، قال: قال ابن عرفة: يقال: أتاه عن يمينه؛ إذا جاءه من الجهة المحمودة، والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين وضدَّه إلى اليسار، قالوا: واليمين مأخوذة من اليُمْن.
وأما قوله ﷺ: «وكلتا يديه يمين» فتنبيهٌ على أنه ليس المراد باليمين جارحة([4])، تعالى الله عن ذلك؛ فإنها مستحيلةٌ في حقِّه E.
وأما قوله ﷺ: «الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»؛ فمعناه: أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلَّدَه من خلافةٍ أو إمارة أو قضاء أو حِسْبة، أو نظَرٍ على يتيم أو صدقة أو وقْف، وفيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك، والله أعلم([5]).
وأما عن مجيئنا بهذا الحديث وليس فيه ذكر محبة الله للمقسطين صراحة؛ فلأنه ليس أدلَّ على محبَّتِه سبحانه إيَّاهم وتقريبِه تعالى لهم من كوْنِهم «عندَ الله»، وكونهم «على منابرَ من نور»، وكونهم «عن يمين الرحمن»؛ فهذا كالتصريح بالمحبَّة والوَلاية.
خلاصة هذا السبب:
أنه يجب الإقساط والعدل في القضاء وفي الحرب وفي السلم؛ أي في كلِّ حال..
1- ففي القضاء يجب الإقساط بين أهل الكتاب إن تحاكموا إلينا؛ فكيف بالمسلم الذي يختصم مع أخيه المسلم إلى قاضٍ مسلم؟!
2- وفي الحرب يجبُ الإقساط بين الطائفتين المسلمتين المقتتلتين.. لا نميل مع أيِّهما؛ بل نُحِقُّ الحق ونبطل الباطل، وننصر الطائفة المظلومة على الطائفة الظالمة.
3- وفي السلم يجب الإقساط إلى غير المقاتلين من المشركين وبرُّهم، لا يمنعنا من ذلك دينُنا، بل هو نفسه الذي يحضُّ على ذلك.
4- والخلاصة أنه يجب الاعتدال في أمور الدين والدنيا جميعًا؛ فإن مجرَّد العدل فضيلةٌ ومكرمة يحبها الله تعالى ويحب صاحبها؛ لكن بشرط أن يكون مؤمنًا مسلمًا. والله المستعان على القاسطين والظلمة.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.