الإخلاص وإتقان العمل
أداء الفرائض، التقرب بالنوافل، أداء العزائم والرُّخَص في مواضعها، ترك المعاصي ..
الإخلاص وإتقان العمل
عن عائشة ڤ مرفوعًا: «إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عمَلًا أن يُتْقِنَه»([1]). وقال المنَاوِيُّ: رأيتُ في روايةٍ ما يدلُّ على أن المرادَ بالإتقان الإخلاص، ولفظُها: «إنَّ الله لا يَقْبَل عمل امرئٍ حتى يُتقِنَه. قالوا: يا رسول الله، وما إتقانه؟ قال: يخلِّصه من الرياء والبدعة». وقال: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم» أيها المؤمنون «عملًا أن يتقنه»، أي: يُحْكِمَه؛ كما جاء مصرَّحًا به في رواية العسكري؛ فعلى الصانع الذي استعمله الله في الصور والآلات والعُدَد مثلًا أن يعمل بما علَّمه الله عمَل إتقان وإحسان بقصد نفع خَلْق الله الذي استعمله في ذلك، ولا يعمَل على نِيَّة أنه إنْ لم يعمل ضاع، ولا على مقدار الأُجرة.
بل على حسب إتقان ما تقتضيه الصنعة، كما ذكر أن صانعًا عمِل عملًا تجاوز فيه ودفعه لصاحبه، فلم ينم ليلته كراهةَ أن يُظهر من عمله عملًا غير متقَنٍ؛ فشرع في عملٍ بدله حتى أتقن ما تعطيه الصنعةُ ثم غدا به لصاحبه؛ فأخذ الأوَّل وأعطاه الثاني، فشكره، فقال: لم أعمل لأجلك بل قضاءً لحقِّ الصنعة كراهةَ أن يظهرَ من عملي عملٌ غير متقن. فمتى قصَّر الصانع في العمل لنقص الأجرة؛ فقد كفَر ما علَّمه الله، وربما سُلِب الإتقان([2]).
1- معنى الإخلاص: هو تجريدُ قصد التقرُّب إلى الله D عن جميع الشوائب. وقيل: هو إفراد الله D بالقصد في الطاعات. وقيل: نسيانُ رؤيةِ الخلْق بدوام النظر إلى الخالق([3]).
وقد أمر الله D بالإخلاص فقال: ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [البينة: ٥]، وقال تعالى: ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [الزمر: ٣]، وقال تعالى: ﴿ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ﴾ [الكهف: ١١٠]، وعن أبي أمامة I قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيتَ رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله ﷺ: «لا شيءَ له»، فأعادها ثلاثَ مرارٍ ويقول رسول الله ﷺ: «لا شيءَ له»، ثم قال: «إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغِيَ به وجهُه»([4])، وقال ﷺ: «ثلاثٌ لا يغلُّ عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاصُ العمل لله، والمناصحةُ لأئمة المسلمين، ولزومُ جماعتهم»([5])، والمعنى: أن هذه الثلاثة تستصلح بها القلوب، فمن تخلَّق بها طهُرَ قلبُه من الخيانة والدغل والشر. ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص؛ لقول الله D: ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [الحجر: ٤٠]. ويُروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: أخلصي تتخلَّصي.
وكل حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قلَّ أم كثُر، إذا تطرَّق إلى العمل تكدَّر به صفوُه وزال به إخلاصُه، والإنسان مرتبطٌ في حظوظه منغمسٌ في شهواته.. قلَّما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظٍ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس؛ فلذلك قيل: طُوبَى لمن صحَّت له خطوة لم يُرد بها إلا وجهَ الله.
فالإخلاص تنقِيةُ القلب عن الشوائب كلِّها قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيها قصد التقرب فلا يكون فيه باعثٌ سواه، والشيطان قد يحاصر العبد ويُحبط له كل عمل، ولا يكاد يخلص له عمل واحد، وإذا خلُص عملٌ واحد فقد ينجو به العبد. قيل للإمام سهل: أي شيءٍ أشدُّ على النفس؟ قال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيب.
فالنفس تحب الظهور والمدح والرياسة، وتميل إلى البَطالة والكسل، وزُيِّنَتْ لها الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فأشدُّ شيءٍ على النفس إخلاصُ النية لله D. قال أيُّوب: تخليصُ النيَّات على العُمَّال أشد عليهم من جميع الأعمال. وقال بعضهم: إخلاص ساعةٍ نجاةُ الأبد ولكنَّ الإخلاصَ عزيز. فينبغي لمن أراد الإخلاص أن يقطع محبَّة الشهوات من قلبه، ويملأ قلبه بحبِّ الرب -جل وعلا- ويستغرق الهمّ بالآخرة، فمثل هذا لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النيَّة، ومن لم يكن كذلك فباب الإخلاص مسدود عليه إلا على النُّدور.
فالذي يغلِب على قلبه حبُّ الله D وحب الآخرة تكتسب حركاتُه الاعتيادية صفةَ همِّه وتصير إخلاصًا، والذي يغلب على نفسه الدنيا والعُلُوُّ والرياسة فيها، وبالجملة غير الله، تكتسب جميعُ حركاته تلك الصفة؛ فلا تسلم له عبادة من صومٍ وصلاة وغير ذلك إلا نادِرًا.
فإذن الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرُّد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب؛ فإذ ذاك يتيسَّر الإخلاص، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظنُّ أنها خالصةٌ لوجه الله ويكون فيها من المغرورين؛ كما حُكِي عن بعضهم أنه كان يصلِّي دائمًا في الصفِّ الأول، فتأخر يومًا عن الصلاة فصلى في الصف الثاني؛ فاعترته خجلة من الناس حيث رأوه في الصف الثاني، فعلم أن مسرَّته وراحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامض قلَّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلَّ من ينتبهُ له إلا من وفَّقه الله تعالى.
والغافلون عن الإخلاص يرون حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى: ﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ * ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ﴾ [الزمر: ٤٧، ٤٨]، وبقوله D: ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ * ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ﴾ [الكهف: ١٠٣، ١٠٤].
قال في «الإحياء»: فقد ظهر بالأدلَّة والعَيان أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة؛ فالعمل بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى -في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورًا-: ﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ [الفرقان: ٢٣]([6]).
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.