المانع من محبة الله عبدًا .. الإحتيال والفخر

الإحتيال والفخر

بقلم / محمد صقر

الإحتيال والفخر

معنى الاختيال و«الفَخُوريَّة»:

1- الاختيال: مصدر اختال يختال اختيالًا وخُيَلاء، وأصله «خَيَل»، والخالُ والخُيَلَاءُ -بضم الخاء وكسرها-: الكبر، تقول منه: اخْتَالَ فهو ذو خُيَلَاءَ وذو خالٍ وذو مَخِيلةٍ؛ أي: ذو كبر. وخالَ الشيء: ظنه يخاله خَيْلًا وخَيْلَةً ومَخِيلةً وخَيْلُولَةً، وهو من باب ظننت وأخواتها، وتقول في مستقبله: إخَالُ بكسر الهمزة، وهو الأفصح.. وأخَالَ الشيء: اشتبه، يقال: هذا أمر لا يخيل.

وخُيِّلَ إليه أنه كذا على ما لم يسم فاعله من التَّخْييل والوهم. وتَخَيَّلَ له أنه كذا وتَخَايَل؛ أي تشبَّه، يقال: تَخَيَّلَهُ فَتَخَيَّلَ له، كما يقال: تصوَّره فتصوَّر له، وتبيَّنه فتبيَّن له، وتحقَّقه فتحقَّق له([1]). وسميت الخيل خَيْلًا لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحًا، ومنه يقال: اخْتَالَ الرجل وبه خيَلاءُ، وهو الكبر والإعجاب.. وأَخَالَ الشيء -بالألف- إذا التبس واشتبه([2]).

وهناك فرق بين تخيَّل وتصور من حيث إن تخيل أقرب للوهم، وتصور وتبين وتحقق أقرب للحقيقة، حتى قيل: «الحكم على الشيء فرع عن تصوُّرِهِ». ومن ثم فالاختيال يعني -ضمن ما يعني- أن يرى المختالَ نفسَه على غير حقيقتِها، فعلى حين هو ضعيف من حيث كونه إنسانًا مخلوقًا([3]) يرى نفسه قويًّا، كما قد يرى نفسه أجمل وأغنى وأعز مما هو عليه في الواقع.

والصفة جاءت في القرآن دائمًا «مُختالًا» على وزن مُفتعل، وهو وزن اسم الفاعل واسم المفعول من «الاختيال»؛ فهو اسم فاعل بمعنى خادع، وهو اسم مفعول بمعنى مخدوع؛ لأنه خادع نفسه ومخدوع في نفسه -كما تقول العامة -.

2- «الفَخُوريَّة»: مصدر صناعي من «فخور» الواردة في القرآن ثلاث مرات ملازمة لمختال وعاقبةً لها([4])، وفخور مبالغة من الفخر، واسم الفاعل منه «فاخِر». و«الفخور» الذي يعدد مناقبه كبْرًا، وهو عادة العرب في الجاهليَّة، حتى أضحى في شعرهم وأدبهم غرضًا مستقلًّا ومعطًى من معطيات حياتهم، وكان من أهداف الإسلام القضاء على هذا الخُلُق وتربية أتباعه على نقيضه من التواضع وما في معناه.

و«الفَخْرُ» -بالسكون ويُحَرَّك مثل نَهْر ونَهَر- والفَخَارُ والفَخَارَةُ بفَتْحِهِما: التَّمَدُّح بالخصال، وعَدُّ القديم، والمُبَاهَاة بالمكارم من حسبٍ ونسب. وقيل: هو المباهاة بالأمور الخارجة عن الإنسان كمالٍ وجَاهٍ. وقيل: الفخر ادعاء العظم والكبر والشرف كالافتخار. وقد فخر كمَنَعَ، يفخر فخرًا وفخرة؛ فهو فاخر وفخور، وكذلك افتخر. وتفاخروا: فخر بعضُهم على بعض. والتفاخر: التعاظم. والتَفَخُّر: التكبر. وفاخره مُفاخرةً وفِخَارًا -بالكسر-: عارضه بالفخر، ففخَره كنصره يفخُرُه فخرًا: غلبه وكان أفخرَ منه، وأكرم أبًا وأمًّا. والمَفْخَرة -وتضم الخاء-: المأْثُرَة وما فُخِر به. والفاخر: الجَيِّدُ من كلِّ شَئٍ.. قال لَبِيد: حَتَّى تَزَيَّنَت الجِوَاءُ بفاخرٍ قَصِفٍ كَأَلْوَانِ الرِّحَالِ عَمِيمِ([5])#تنسيق شعر#

وقد ورد الاختيال و«الفخورية» مانعَيْن من محبة الله تعالى العبدَ المتصف بهما ثلاث مرات في القرآن في سُوَر النساء ولقمان والحديد، ولم ترد إحداهما منفردة ولا ملازمة لغيرها من غير الأخرى.

أولاً- الكفر بالله واليوم الآخر والبخل وأمر الناس به وكتمان النعم، والرياء ومرافقة الشياطين:

قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا *وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾ [النساء: ٣٦-٣٨].

فتسرد الآية الأولى حقوق الله وحقوق العباد على المكلف؛ فحقوق الله تعالى العبادة بأنواعها([6])، وحقوق العباد الإحسان لمن يحتاجه منهم؛ فمن حق الوالدين الطاعة والتوقير والرعاية، ومن حق الأقرباء الصلة، ومن حق اليتامى الكفالة، ومن حق الجيران كف الأذى وعيادة المرضى وغير ذلك، ومن حق ابن السبيل الإكرام والإرشاد ونحوه، ومن حق ملك اليمين الرحمة بهم.

وكل هذا من الإحسان المذكور في الآية. واللازمة بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾؛ أن المختال الفخور هو من يمنع هذه الحقوق، فإن من يمنعها يكون بذلك مختالًا فخورًا، فكلا المعنيين وارد؛ لأن المختال الفخور يرى نفسه أكبر من الحق ومن صاحبه، ويرى نفسه متميزًا عن أصحاب الحقوق التي عندَه والتي عليه.

فيرى نفسه أحق بها منهم؛ كصاحب الجنتين الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: ٣٤]. بل قد يرى المختال الفخور نفسه في مقام الكبير سبحانه -أعاذنا الله وإيَّاك من الكفر والكافرين- كحال فرعون لعنه الله، قال -مختالًا على قومه وعلى موسى S-: ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ*أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [الزخرف: ٥١، ٥٢].

وقال متكبِّرًا على الله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾ [النازعات: ٢٤]، وقال تعالى فيه: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: ٣٨، ٣٩]. ففرعون كان متكبِّرًا معجبًا بنفسه، وكان مخدوعًا مغرورًا، وكان بسبب هذا وذاك مانعًا للحقوق التي عليه، وهذا هو الاختيال والفخر المانع من محبته تعالى.

وقل هذا على إبليس والنمروذ وأبي جهل وغيرهم، يمنعهم الكبر والاغترار بالرب الكريم والحسد لأولياء الله من أداء الحقوق التي عليهم.

والعجيب أن هؤلاء المتَطَرِّفِين في الكبر متطرفون أيضًا في دناءة النفس، فهم من أوطأِ خَلق الله أخلاقًا، حتى كان أبو جهل والعاص بن وائل وصناديد قريش يأكلون السحت عيانًا([7])، وإنما المتواضعون هم كبراء النفوس حقيقة، وسنأتي لهذا في أسباب محبة الله تعالى العباد في الباب الثاني عند صِفتَي العزة على الكافرين والذلة للمؤمنين، إن شاء الله.

ومن أقوال المفسرين في آيات سورة النساء التي معنا:

قال ابن كثير مختصرًا: يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته؛ كما قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل: «أتدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم؛ قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا». ثم قال: «أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم»([8]).

ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين؛ فإن الله سبحانه جعلهما سببًا لخروجك من العدم إلى الوجود. ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء؛ كما جاء في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة»([9]).


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.


(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).


(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.


(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.


(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).


(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.


(7) «الإحكام في أصول الأحكام» لأبي الحسن الآمدي تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي - بيروت ودمشق (د. ت).


(8) «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى 505هـ) ط. دار المعرفة - بيروت (د. ت).


(9) «الأخوة الإيمانية» للدكتور سعيد عبد العظيم ط. دار الإيمان بالإسكندرية (د. ت).


تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.