الأمر بالمنكرِ والنهي عن المعروف ... المانع الثاني عشر من موانع محبة الله عبدًا
فعن قتادة عن رجلٍ من خثعم، قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: «الإشراك بالله»، قال: قلت: يا رسول الله! ثم مه؟ قال: «ثم قطيعة الرحم»، قال: قلت: يا رسول الله! ثم مه؟ قال: «ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» الحديث([1]).
تعريف المنكر والمعروف:
عَرَفَهُ يعرفه -بالكسر- مَعْرِفةً وعِرْفانًا -بالكسر- والعَرْفُ: الريح طيبة كانت أو منتنة، والمَعْرُوفُ ضد المنكر، والعُرْفُ ضد النكر، يقال: أَوْلاه عرفًا؛ أي معروفًا، والعُرْف أيضًا الاسم من الاعتراف، وقيل: أُرسلْتُ بالعُرْف؛ أي بالمعروف([2]). والمعروف: اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حُسْنه، والمنكر: ما ينكر بهما. قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، وقال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: ١٧]، ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: ٣٢].
ولهذا قيل للاقتصاد في الجود: معروف؛ لما كان ذلك مستحسنًا في العقول وبالشرع، نحو: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ۚ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: ٦]، ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٤].
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ أي: بالاقتصاد والإحسان، وقوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: ٢]، وقوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٦٣]؛ أي: رد بالجميل ودعاء خير من صدقة كذلك، والعرف: المعروف من الإحسان، وقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: ١٩٩]([3]).
والنَّكِرةُ ضد المعرفة، وقد نَكِرهُ -بالكسر- نُكْرًا ونُكُورًا -بضم النون فيهما- وأَنْكَرَهُ واسْتَنْكَرَهُ كله بمعنًى، ونَكَّرهُ فَتَنَكَّرَ؛ أي: غيَّره فتغير إلى مجهول، والمُنْكَرُ واحد المَنَاكِيرِ، والنَّكِيرُ والإنكارُ تغيير المُنكر، ومُنْكَرٌ ونَكِيرٌ اسما ملكين، والنُّكْرُ المُنْكر، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ [الكهف: ٧٤]، وقد يُحرَّك مثل عُسْر وعُسُر، والإنكارُ الجحود([4]).
والإنكار ضد العرفان. يقال: أنكرت كذا ونكرته، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره، وذلك ضرب من الجهل. والمنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول؛ فتحكم بقبحه الشريعة، وإلى ذلك قصد بقوله: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١١٢]، ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: ٧٩].
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٩].
وتنكير الشيء من حيث المعنى جعلُه بحيث لا يعرف؛ قال تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: ٤١]، وتعريفه جعله بحيث يعرف. ونكرت على فلان وأنكرت: إذا فعلت به فعلًا يردعه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [الملك: ١٨]؛ أي: إنكاري. والنكر: الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، وقد نكر نكارة([5]). وقد سبق تعريفٌ موجز للمنكر فيما مضى.
وأصل (المعروف) كل ما كان معروفًا فعله جميلًا مستحسنًا غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله معروفًا؛ لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله، وأصل (المنكر) ما أنكره الله ورأوه قبيحًا فعله، ولذلك سميت معصية الله منكرًا؛ لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ويستعظمون ركوبها([6]).
الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف:
كيف لا، وهذا عكس الفطرة ومقررات الشرع الشريف؟! بل هو منتهى الشر وغايته أن تجد إنسانًا من حيث إنه خلق لعبادة الله تعالى وحده، لم يكتف بالامتناع من ذلك، بل إنه ينهى عنها ويأمر بضدها؛ فإذا كانت الخيرية إنما تكون بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الشر يكون بعكسه.
وإذا كان معلومًا أن اليهود مغضوب عليهم فهذا شرٌّ منهم؛ لأن اليهود ﴿ انُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: ٧٩]، أما هذا فلم يقف عند هذا الحدِّ، بل تمادى في طريق تحصيل غضب الله تعالى ولعنته وبغضه؛ فراح يحارب الله تعالى.. يأمر بما ينهى الله سبحانه عنه، وينهى عما يأمر D به.
ثم إن هذه إحدى أخطر صفاتِ المنافقين.. قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧]، ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: ١٤٥].
وإذا علمنا أن القيامة إنما تقوم على شرار الخلق، فلنعلم أن هذه أبرز صفاتهم.. قال رسول الله ﷺ: «فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا؛ فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دارٌّ رزقُهم، حَسَنٌ عيشُهم»([7]).
خلاصة هذا المانع:
أن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف شرُّ الشرور، وأحد أخطر موانع حصول محبة الله عبادَه، ومرتبته في الموانع الثالثُ بعد الكفر وقطيعة الرحم، وهنا لفتة في كتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يُضرب بعضُه ببعض؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: ٤١]؛ فعلَّق سبحانه التمكين في الأرض على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع من ذلك من إذا تولَّى أفسد في الأرض وقطع الرحم.
فإذا كانت الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوليات أسباب تحصيل محبته سبحانه؛ كانت قطيعة الرحم والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف من أوليات موانع حصول محبته لفاعلي ذلك، والله تعالى أعلم.
(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).
(6) «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الأشبيلي المالكي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا ط3 دار الكتب العلمية - بيروت 1424هـ.