استحلال الربا .. الفرق بين الكَفَّار والأثيم

استحلال الربا

بقلم / محمد صقر

استحلال الربا .. الفرق بين الكَفَّار والأثيم

وفي «صحيح ابن حبان» قال: قال أبو حاتم : وقوله: «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت» يريد جنة دون جنة؛ لأنها جنان كثيرة، وهذا كقوله ﷺ: «لا يدخل الجنة ولد الزنى، ولا يدخل العاق الجنة، ولا منان» .. يريد جنة دون جنة.

[قلت]: وهذا يدل على أن أكل الربا (السحت) كبيرة من وجوه:

أولها: الوعيد الشديد عليها؛ حيث المنع من دخول الجنة. والثاني: أن صاحبه لابد أن يدخل النار حتى تأكل ما نبت من لحم من الربا، ثم يبدله الله خيرًا منه -إن كان من أهل "لا إله إلا الله"- فيدخل الجنة بعد ذلك.

والثالث: أن آكل الربا -ما لم يستحله- ليس بكافر، بدليل خروجه من النار بعد التطهر؛ حيث لا يخلد مرتكب الكبيرة في النار، كما هي عقيدتنا معشر أهل السنة والجماعة.

   

أما عن استحلال الربا فكفرٌ من وجوه:

أولها: أنه إنكار للمعلوم من الدين بالضرورة؛ فالدين عقائد وعبادات ومعاملات، والربا باب مشهور في المعاملات.. معلوم شره ومقته وتحريمه.. قال ابن القيم: وبيان ذلك([1]) على وجه الإشارة أن الله E حرَّم الربا والزنا وتوابعهما ووسائلهما؛ لما في ذلك من الفساد، ولابد أن يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة؛ وإلا فكان البيع مثل الربا، والنكاح مثل الزنا، ومعلوم أن الفرق في الصورتين مُلغًى عند الله ورسوله.

وفي فطرة عباده؛ فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدًا، فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني؛ كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال إذا اختلفت صورها واتفقت مقاصدها، وعلى هذه القاعدة يبنى الأمر والنهي والثواب والعقاب، ومن تأمَّل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا([2]).

والثاني: أن استحلال الربا إنكار لكثير من القرآن والسنة؛ فقد ورد تحريم الربا وذمه والتشنيع على آكله في آيات كثيرة وأحاديث جمة.. منها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: ٢٧٨]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٠].

﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 161]، ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: ٣٩]، وفي الحديث نقلنا حديث كعب بن عجرة I الوارد في أكثر من خمسة عشر كتابًا من دواوين السنة المشرفة، وحديث السبع الموبقات، وغير ذلك.

وإذن فمستحل الربا لا يسعه إلا أن ينكر هذه الآيات والأحاديث المصرِّحة والجازمة بتحريم الربا، ومعلوم أن من يجحد شيئًا من القرآن كافر، وهو غير العاصي الذي يقرُّ بحرمة الشيء ولو أنه ارتكبه؛ لأن جاحد الشرع يخشى الناس أكثر مما يخشى الله تعالى.

وهي صفة في أصناف من الكفار؛ خاصة اليهود والمنافقين.. قال تعالى: [يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا]، ومن خصائص اليهود أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وهي صفة ملازمة للمستخفي من الناس، وكلا الصفتين مقدِّمتان لاستحلال الربا؛ حيث يخشى المرابي العار فينكر حرمة الربا حتى لا يلومه الناس إذا ما فعله، وإذا قيل له: كفرت؛ قال إنه مؤمن. ويستدل بتمسكه -في الظاهر- ببعض ما يؤمن به المؤمنون.

الثالث: أنه محادة لله تعالى ومحاربة، ولا يحادُّ الله تعالى ويحاربه إلا كافر، وإنما المؤمن يصفُّ نفسَه في حزب الله المفلحين؛ فيأتمر بأمره وينتهي بنهيه ويدعو إليه ويقاتل في سبيله، ومما يدل على أن الربا محادَّة لله تعالى قولُه تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ** فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ279﴾ [البقرة: ٢٧٨، ٢٧٩]. قال المفسرون: حربًا في الدنيا؛ حيث يستتيب الإمامُ المتعاملَ بالربا، فإن تاب وأقلع وإلا ضرب عنقه.. قاله ابن عباس والحسن وابن سيرين.. هذا في الدنيا، وفي الآخرة قال ابن عباس: يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب([3]).

إن الربا إفساد في الأرض، بل هو من أكبر الإفساد فيها، والمفسد في الأرض محارب لله تعالى.. قال تعالى: ﴿ ﴾ [المائدة: ٣٣]، فربما استنبط من قال بضرب عنق المرابي إن لم يتب هذا الحكم من هذه الآية. ثم إن أخذ السلاح -في قول ابن عباس- حرب لله تعالى، وإنما فُعِل بالمرابي ذلك في الآخرة؛ لأنه كان في الدنيا محاربًا. وكل هذا فضلًا عن كونه غيرَ راضٍ برزق الله الحلال، وغير مؤمن بالبعث حيث يجازى.

«الكَفَّار» و«الأثيم» والفرق بينهما:

(1) «الكَفَّار»: هي مفرد على المبالغة من اسم الفاعل كافر، وقد تُحوَّل صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المتعدي واللازم إلى أوزان أخرى تدل على الكثرة والمبالغة -كمًّا وكيفًا- في اتصاف الذات بالحدث، وتسمى صِيَغ المبالغة؛ فنحو كذَّاب أبلغ من كاذب في دلالتها على الكذب. وأشهر صيغ المبالغة خمس هي: فعَّال، ومِفعال، وفعُول، وفعِيل، وفَعِل([4]).

وفِعْل «كفَّار»: «كَفَرَ» المتعدي في بعض الاستعمالات واللازم في بعضها.. تقول: كفر الرجل، وكفر نعمة ربه؛ كما يتعدى اللازم منه بالباء.. تقول: كفر بالله.

فـ«كفَّار» صيغة مبالغة([5]) من كافر؛ أي: كثير الكفر، لمن يكفر مرة بعد مرة، أو بهذه الآية وبتلك، وبهذه النعمة وبتلك. وهو المبالغ في الكفر؛ حيث يُنهى عنه ولا ينتهي، فصفة الكفر ملازمة له.. ملتصقة به.. لا تنفك عنه ولا تبرحه.. يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ويجحد الشرع، ويستحل الحرام.. إلخ. وإذن فـ«كَفَّار» تعني -والله أعلم بمراده- مكرِّر الكفر والمستزيد منه، وفي كل منهما تفصيل:

(أ) إذا كان المعنى تكرار الكفر.. أي الكفر مرة بعد مرة؛ فهل الكفر مرة واحدة لا يمنع من حب الله تعالى؟

عقيدة أهل السنة والجماعة أنه ما لم يغرغر العبد ولم تطْلُع الشمس من مغربها، فإن باب التوبة مفتوح حتى للكافر؛ غير أنه يخشى على من يكرِّر الكفر أن يطبع الله على قلبه فلا يؤمن- والعياذ بالله- أبدًا؛ فكان دعاء موسى على فرعون وملئه: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: ٨٨]، وقال تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: ٣]. ومما يدل على أن «كفَّارًا» قد تعني تكرار الكفر قولُه تعالى في الآية السابقة .


(1) «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان البوصيري الكناني الشافعي (المتوفى 840هـ) تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم تحقيق: دار المشكاة للبحث العلمي، بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم ط1 دار الوطن للنشر - الرياض 1420هـ.
(2) «الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية» لزين الدين محمد المدعو بعبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى 1031هـ) شرحه محمد منير بن عبده أغا النقلي الدمشقي الأزهري (المتوفى 1367هـ) باسم «النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية» تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - طالب عواد ط. دار ابن كثير - دمشق وبيروت (د. ت).
(3) «الآحاد والمثاني» لأبي بكر بن أبي عاصم، وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني (المتوفى 287هـ) تحقيق د. باسم فيصل أحمد الجوابرة ط1 دار الراية - الرياض 1411هـ.
(4) «الأحاديث المختارة» أو «المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما» لأبي عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى 643هـ) تحقيق: معالي الأستاذ الدكتور عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط3 دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 1420هـ.
(5) «أحكام القرآن» لإلكيا الهراس (المتوفى 504هـ) تحقيق: موسى محمد علي، وعزة عبد عطية ط2 دار الكتب العلمية- بيروت (د. ت).

تواصل مع فريق عمل أثر بالضغط هنا.