إصلاح التعليم - الحقائق والآفاق .. بقلم أحمد جمال الدين موسى
قضية إصلاح التعليم تشغل بال كل المخلصين للوطن، الآملين في نهوضه وازدهاره، فتكاد تكون بحق شجنًا قوميًّا، ومع ذلك قد تتفاوت رؤيتهم لذلك الإصلاح، إما بسبب غياب المعلومات والبيانات الأساسية، وإما بسبب اختلاف المدخل المقترح لتحقيق طفرة علي أرض الواقع.
والحقيقة أن إصلاح التعليم والنهوض به لم يكن أبدا بالنسبة لأي أمة من الأمم مسألة هينة، ليس فقط بسبب غموض المفهوم وعموميته، وتطلبه العمل ضمن مجموعة واسعة من المحاور علي التوازي، ولكن أيضا لأنه لا يمكن أن يتحقق واقعيا دون أن تؤازره إصلاحات مؤسسية أعم تشمل كل قطاعات المجتمع.
وأنا هنا لا أنتوي تقديم مقترح من قبيل وضع أو تحديث استراتيجية ما لإصلاح أو تطوير التعليم، فتلك مهمة المؤسسات وليس الأفراد، فضلًا عن تحفظي الدائم علي الإغراق في ذلك المنحي، لأنه رغم توالي استراتيجيات وخطط التعليم الطموحة في مصر علي مدار العقود الماضية والجهد والمال الذي بذل فيها، فإنها لم تنعكس واقعيًّا بالقدر الكافي علي تحسين أوضاع النظام التعليمي.
والملاحظ علي معظم تلك الاستراتيجيات أنها كانت تتبني أهدافًا كبيرة وطموحات طيبة، غير أنها لم تترجم بشكل جدي علي أرض الواقع لأسباب تعود لقصور في التمويل، أو لإفراط مُبالغ فيه في التوجه نحو المركزية دون مشاركة حقيقية وجدية من قوي المجتمع صاحبة المصلحة، خاصة أولياء الأمور والمعلمين والطلاب ومنظمات المجتمع المدني.
ويبقي أنه لا خلاف علي أن نهضة مصر المأمولة ستتوقف إلي حد كبير علي مقدار نجاحنا في تطوير نظامنا التعليمي.
وفي العالم كله يكاد يكون هناك إجماع علي أن التعليم هو أكثر الأدوات تأثيرًا علي فرص الأفراد في الحراك الاجتماعي للأعلي، والحصول علي نوعية حياة أفضل وزيادة الدخل المتاح، غير أن التساؤل يثور دائمًا حول الكيفية التي يمكن من خلالها تعزيز قدرة النظام التعليمي المصري علي التغلب علي أوجه عجزه وقصوره، وكيف يمكننا الاستفادة من التجارب الناجحة لدول عديدة حققت نجاحات ملموسة نشهدها، كما الحال علي سبيل المثال في اليابان وكوريا وفنلندا وغيرها.
في اعتقادي، وكما سبق أن كتبت منذ نشرت في أعوام 1997 و1999 و2009 دراساتي عن اقتصاديات تمويل التعليم في مصر، فإنه يلزم لتحقيق الإصلاح المنشود التركيز علي محاور عدة، يمكن دمجها اختصارًا في ثلاثة: أولًا الإتاحة والجودة، ثانيا المعلمون والتمويل، وثالثا الكفاءة والحوكمه.
ويعني مفهوم الإتاحة باختصار التأكد من حصول كل الأطفال في سن التعليم أيًّا كان جنسهم أو مستواهم المادي أو محل إقامتهم ومجانًا لمن يرغب، علي مكان في فصل تعليمي بكثافة مناسبة وغير بعيد عن سكنهم. ولكي نتعرف علي أبعاد المشكلة، دعونا نقرأ الأرقام ونحلل دلالاتها؛ فوفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2017)، بلغ معدل الالتحاق الصافي في التعليم الابتدائي 97 %، ووصلت نسبة من أكمل هذه المرحلة إلي 95% (world Bank: 2018).
وهو ما يعني أن نحو 5% من الأطفال المصريين لم تتح لهم منذ البداية فرصة الالتحاق بالتعليم. ونحن نعتقد أن هناك أداتين مهمتين تلعبان دورا في تحسين معدل الالتحاق بالتعليم الأساسي وخفض نسب التسرب منه، خاصة من جانب أبناء محدودي الدخل، وهما الدعم المالي النقدي للعائلات المقترن بانتظام الأبناء في الدراسة، وبرنامج التغذية المدرسية المجانية.
وغني عن القول أن هؤلاء الذين لم يلتحقوا بالتعليم الأساسي أو تسربوا فيما بعد منه سينضمون إلي الأميين الذين وصلت نسبتهم في عام 2017 لنحو 19% من السكان الذين تزيد أعمارهم علي خمسة عشر عامًا، وهي نسبة تظهر قدرًا من التحسن في السنوات الأخيرة، وتعد أفضل مقارنة بدول مثل المغرب والهند (31%) والجزائر (25%)، لكنها لا تقارن بدول أخري مشابهة نجحت في تخفيض أكبر في معدل الأمية مثل السعودية (6%) وتركيا (4%) (world Bank: 2018).
وهكذا، فإنه رغم التحسن الكبير في نسب الالتحاق بالتعليم الأساسي، فإنه تظل هناك الكثير من الدلائل علي استمرار وجود قدر من عدم عدالة فرص الالتحاق به، خاصة بالنسبة لبنات الفئات الفقيرة والمهمشة في صعيد مصر، وهو ما يظهر استمرار قدر من التمييز الاجتماعي ضد المرأة وضد الصعيد والمناطق المهمشة. وتبدو مشكلة الإتاحة أكثر وضوحًا.
عندما نستعرض أوضاع فصول رياض الأطفال، حيث تنخفض نسبة الأطفال الملتحقين بها (من سن 4 سنوات حتي سن 6 سنوات) لتتراوح في حدود 26% فقط، وهي نسبة متدنية للغاية مقارنة بدول أخري عديدة، مثل المغرب (50%) والجزائر (72%) والإمارات العربية (74%) وكوريا (98%) (world Bank: 2018). والمثير للقلق هو أن هذه النسبة تعني أن هناك نحو ثلاثة أرباع الأطفال المصريين لا يحصلون أساسا علي فرصة التعليم المبكر، رغم أهميته الكبيرة حسبما نوهت إلي ذلك دراسات تربوية عديدة..
وكذلك فإن هذه النسبة تعني الفشل في الوصول لما تم استهدافه في اتفاق الحكومة المصرية مع البنك الدولي وبعض الجهات المانحة في عام 2005، وهو رفع نسبة الالتحاق بفصول رياض الأطفال من نسبة 14% حينئذ إلي 60% خلال عشر سنوات.
ولمعالجة هذا الخلل، نعتقد أنه يتوجب: أولا- تفعيل الاتفاقيات التي جرت مع الجمعيات الخيرية في عام 2005، وإضافة المزيد لها، مع وضع آلية للمحاسبة علي جدية التنفيذ.
ثانيا- توسعة إطار التعاون ليشمل كل مؤسسات الدولة، عامة كانت أو خاصة، التي لديها عدد كبير من العاملات والعاملين، لتجهيز دور حضانة ورياض أطفال داخل مقارها، تتولي وزارة التربية والتعليم تزويدها بالمناهج وأساليب التعلم والمعلمين إن لزم الأمر؛ ثالثا- النظر في توسعة الشريحة العمرية المستهدفة، لتشمل أيضا بشكل تدريجي الأطفال من سن ثلاث إلي أربع سنوات.
ومنذ عام 2011، تم تحرير هيئة الأبنية التعليمية من التقيد بالنماذج النمطية المحددة للمباني التعليمية، لتقديم مجموعة مرنة من النماذج المعمارية التي تتناسب مع الاحتياجات الفعلية للوحدات المحلية في ضوء ظروفها الواقعية. ولا يوجد أي مانع من تبني مفهوم فصول الهواء الطلق الذي دعا إليه أديبنا المتميز الدكتور محمد المخزنجي مؤخرًا .
لكن بشرط أن يكون هناك فصل تعليمي معقول الكثافة، يتولاه معلم كفء ضمن إطار مؤسسة تعليمية علي النحو الذي سنستكمل استعراضه في المقالات اللاحقة.